فصل: سورة البقرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم




.سورة البقرة:

.فصول مهمة تتعلق بالسورة الكريمة:

.فصل في تسمية السورة:

قال في صفوة التفاسير:
سميت السورة الكريمة سورة البقرة إحياء لذكرى تلك المعجزة الباهرة، التي ظهرت في زمن موسى الكليم، حيث قتل شخص من بني إسرائيل ولم يعرفوا قاتله، فعرضوا الأمر على موسى لعله يعرف القاتل، فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة، وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن القاتل، وتكون برهانا على قدرة الله جل وعلا في إحياء الخلق بعد الموت، وستأتي القصة مفصلة في موضعها إن شاء الله. اهـ.

.فصل في مقصود السورة:

.قال البقاعي:

مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى ليتبع في كل ما قال، وأعظم ما يهدي إليه الإيمان بالغيب، ومجمعه الإيمان بالآخرة، فمداره الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة التي مجارها الإيمان بالغيب فلذلك سميت بها السورة وكانت بذلك أحق من قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها في نوع البشر ومما تقدمها في قصة بني إسرائيل من الأحياء بعد الإماتة بالصعق وكذلك ما شاكلها، لأن الأحياء في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر بمباشرة من كان من آحاد الناس فهي أدل على القدرة ولاسيما وقد اتبعت بوصف القلوب والحجارة بما عم المهتدين بالكتاب والضالين فوصفها بالقسوة الموجبة للشقوة ووصفت الحجارة بالخشية الناشئة في الجملة عن التقوى المانحة للمدد المتعدي نفعه إلى عباد الله، وفيها إشارة إلى أن هذا الكتاب فينا كما لو كان فينا خليفة من أولي العزم من الرسل يرشدنا في كل أمر إلى صواب المخرج منه فمن أعرض خاب، ومن تردد كاد، ومن أجاب اتقى وأجاد.
وسميت الزهراء لإنارتها طريق الهداية والكفاية في الدنيا والآخرة، ولإيجابها إسفار الوجوه في يوم الجزاء لمن آمن بالغيب ولم يكن في شك مريب فيحال بينه وبين ما يشتهي، بالسنام لأنه ليس في الإيمان بالغيب بعد التوحيد الذي هو الأساس الذي يبتني عليه كل خير والمنتهى الذي هو غاية السير والعالي على كل غير بأعلى ولا أجمع من الإيمان بالآخرة، ولأن السنام أعلى ما في بطن المطية الحاملة والكتاب الذي هي سورته هو أعلى ما في الحامل للأمر وهو اللشرع الذي أتاهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم.
{بسم الله} الذي نصب مع كونه باطنا دلائل الهدى حتى كان ظاهرا: {الرحمن} الذي أفاض رحمته على سائر خلقه بعد الإيجاد ببيان الطريق: {الرحيم} الذي خص أهل وده بالتوفيق. قال العلامة أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة لمفتاح الباب المقفل في معنى ما رواه عن ابن وهب من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه آمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنا به، كل من عند ربنا» وهذا الحديث رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده وأبو يعلى الموصلي ومن طريقه ابن حبان في صحيحه، كلهم من طريق ابن وهب عن حيوة عن عقيل بن خالد عن سلمة بن أبي سلمة بت عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه. فذكره من غير ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال العلامة الحافظ أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي الشافعي في كتابه المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز بعد أن ساق هذا الحديث من رواية سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث عند أهل الحديث لم يثبت، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود، وابنه سلمة ليس مم يحتج به، نوهذا الحديث مجمع على ضعفه من جهة إسناده وقد رده قوم من أهل النظر منهم أحمد بن أبي عمران فيما سمعه الطحاوي منه ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أم سلمة عن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، قال أبو شامة: وهكذا رواه البيهقي في كتاب المدخل وقال: هذا مرسل جيد، أبو سلمة لم يدرك ابن مسعود، ثم رواه موصولا وقال: فإن صح فمعنى قوله: «سبعة أحرف» أي سبعة أوجه، وليس المراد به اللغات التي أبيحت القراءة عليها وهذا المراد به الأنواع التي نزل القرآن عليها والله أعلم.
قلت: عزاه شيخنا العلامة مقرئ زمانه شمس الدين محمد بن محمد بن محمد ابن الجزري الدمشقي الشافعي في أوائل كتابه (النشر في القراءات العشر) إلى الطبراني من حديث عمر بن أبي سلمة المخزومي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود رضي الله عنه: «إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد وإن القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وضرب أمثال وآمر وزاجر، فأحل حلاله وحرم حرامه واعلم بمحكمه وقف عند متشابهه واعتبر أمثاله، فإن كلا من عند الله وما يذكر إلا أولو الألباب» ورواه الحافظ أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف من وجه آخر عن عبد الله قال: «إن القرآن أنزل على نبيكم صلى الله عليه وسلم من سبعة أبواب على سبعة أحرف أو حروف. وإن الكتاب قبلكم كان ينزل أو نزل. من باب واحد على حرف واحد» ورواه البيهقي في فضل القرآن من الشعب عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال».
قال الحرالي: وفي حديث آخر من طريق ابن عمر رضي الله عنهما: إن الكتب كانت تنزل من باب واحد وإن هذا القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف وقال في معنى ذلك: اعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق وكمال كل الأمر بدءًا فكان المتخلق به جامعا لانتهاء كل خلق وكمال أمر فلذلك صلى الله عليه وسلم قثم الكون وهو الجامع الكامل. ولذلك كان خاتما، وكان كتابه ختما، وبدأ المعاد من حد ظهوره، إنه هو يبدئ، ويعيد، فاستوفى صلاح هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها وتمت عنده نهاياتها «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» رواه أحمد عن معاذ رضي الله عنه رفعه، وهي صلاح الدنيا والدين والمعاد التي جمعها في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي» وفي كل صلاح إقدام وأحجام فتصير الثلاثة الجوامع ستة مفصلات هي حروف القرآن الستة التي لم يبرح يستزيدها من ربه حرفا حرفا، فلما استوفى الستة وهبه ربه حرفا جامعا سابعا فردا لا زوج له، فتم إنزاله على سبعة أحرف.
فأدنى تلك الحروف هو حرف إصلاح الدنيا، فلها حرفان، أحدهما: حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهير منه لبعدهع عن تقويمها، والثاني حرف الحلال الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته لتقويمها، وأصل هذين الحرفين في التوراة، وتمامهما في القرآن.
ثم يلي هذين حرفا صلاح المعاد: أحدهما حرف الزجر والنهي التي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهير منه لبعده عن حسناها، والثاني حرف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه بحسناها، وقد يتضرر على ذلك حال الدنيا، لأنه يأتي على كثير من حلالها لوجوب إيثار الآخرة لبقائها وكليتها على الدنيا لفنائها وجزئيتها، لكون خير الدنيا جزءاَ من ماله وشر الدنيا جزءا من سبعين جزءا ولا يؤثر هذا الجزء الأدنى لحضوره على ذلك الكل الأنهى لغيابه إلا من سفه نفسه وضعف إيمانه، فتخلص المرء من حرف الحرام طهره وتخلصه من النهي طيبه، وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن.
ثم يلي هذين حرفا صلاح الدين: أحدهما حرف المحكم الذي بان للعبد فيه خطاب ربه من جهة أحوال قلبه وأخلاق نفسه وأعمال بدنه فيما بينه وبين ربه من غير التفات لغرض النفس في عاجل الدنيا ولا آجلها، والثاني حرف المتشابه الذي لا يبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله من إدراكه ووجوب تسبيح ربه عن تمثل عبده إلى أن يؤيده الله بتأييده. والحروف الخمسة للاستعمال وهذا الحرف السادس للوقوف ليكون العبد قد وقف لله بقلبه عن حرف كما قد كان أقدم لله على تلك الحروف ولينسخ بعجزه وإيمانه عند هذا الحرف السادس انتهاء ما تقدم من طوقه وعلمه في تلك الحروف ابتداء، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامها في القرآن.
فهذه الحروف الستة يشترك فيها القرآن مع سائر الكتب ويزيد عليها تمامها وبركة جمعها، ويختص القرآن بالحرف السابع الجامع مبين المثل الأعلى ومظهر اللمثول الأعظم حرف الحمد الخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو حرف المثل.
وعن جمعه وكمال جمعه لمحمد صلى الله عليه وسلم في قلبه وقراءته على لسانه وبيانه في ذاته ظهرت عليه خواص خلقه الكريم وخلقه العظيم، ولا ينال إلا موهبة من الله تعالى لعبده بال واسطة والستة تتنزل بتوسطات من استواء الطبع وصفاء العقل بمثابة وحي النبي وإلهام الولي.
ولما كان حرف الحمد هو سابعها الجامع افتتح الله به سبحانه وتعالى الفاتحة أم القرآن وأم الكتاب وجمع فيها جوامع الحروف السبعة التي بثها في القرآن كما جمع في القرآن ما بث في جميع الكتب المتقدمة، كفضة ثقلت على مريد السفر فابتاع بها ذهبا فذلك مثل القرآن ثم ثقل عليه الذهب فابتاع به جواهرا، فذلك مثل أم القرآن فأذن كمال الحروف التي أنزل عليها القرآن موجودة في جوامع أم القرآن، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد السابع، والثانية تشتمل على حرفي الحلال والحرام الذين أقامت الرحمانية بهما الدنيا يريد- والله سلحانه وتعالى أعلم- أن الرحمانية وسعت على العباد الاستمتاع بالمخلوق من النعم والخيرات الموافقة لطباعهم وأمزجتهم زقبول نفوسهم في جميع جهات الاستمتاع، فكان في ذلك رحمتان: رحم بالإباحة وهي إزالة حرج الحظر ورحمة يمنع لحاق حرج الإثم أو يجعل المباح شهيا للطبع، وأما الرحيمية فطهرتهم من مضار أبدانهم ورجاسة نفوسهم ومجهلة قلوبهم، ففي ذلك رحمة واحدة وهي حمية المحبوب عن المضار من المحبوب، أو يريد- وهو والله تعالى أعلم أقرب- أن الرحمانية أقامت بعمومها كل ما شملته الربوبية من إفاضة النعم وإزاحة النقم على وجه مسعد أو مشق، والرحيمية أقامت بخصوصها كما تقدم بما ترضاه الإلهية إدرار النعم ودفع النقم على الوجه المسعد خاصة. انتهى.
والآية الثالثة تشتمل على أمر المللك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين ييبدو أمرهما في الدين، والرابعة تشتمل على حرفي المحكم في قوله: {إياك نعبد} [الفاتحة: 5] والمتشابه في قوله: {وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] ولما كانت بناء خطاب محاضرة لم تردد مسألتها في السورة فانفرد هذان الحرفان عن الدعاء فيهما وعادتت مسألة الآيةى الخاتمسة على حرف الحمد ومسألة الآية السادسة على آية النعمة من حرفي الحلال والحرام ومسألأة الآية السابعة على آية الملك من حرفي الأمر والنهي فجمعت الفاتحة جوامع الحروف السبعة.
ولما ابتئت الفاتحة أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئ القرآن بالحرف السادس المعجوز عنه وهو حرف المتشابه، لأنه عن إظهار العجز ومحض الإيمان كانت الهبة والتأييد، وليكون العبد يفتتح القرآن بالإيمان يغيب متشابه في قوله: {الم} فيكون أتم انقيادا لما دونه وبريئا عن الدعنوى في مستطاعه في سائر الحروف، ثم ولى السادس المفتتح به القرآن الخامس المحكم كم وجه في قوله سبحانه وتعالى: {ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} لأن من عمل بها من قلبه شعبة إيمان وعلم كانت له من المحكم، ومن عمل بها ائتمارا وإلجاء ولم يدخل الإيمان في قلبه كانت له حرف أمر: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا} [الحجرات: 14].
وهذا إنما وقع ترتيبه هكذا في القرآن المتلو، وأما تنزيله في ترتيب البيان فإن ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو حرف المحكم وهو قوله سبحانه وتعالى: {اقرأ باسم ربك الي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم} [العلق: 1- 5] الآياتن الخمس، وأول ما أنزل إلى الأمة في ترتيب البيان هو من حرف الزجر والنهي وهو قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر} [المدثر: 1- 2] أي: {نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبأ: 46] أعلمهم بما تخاف عاقبته في الآخرة وإن كانوا قد اتخذوا في الدنيا مودة بأوثانهم وقال تعالى: {إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض} [العنكبوت: 25] الآية، فابتدأ سبحانه وتعالى ترتيل الأمة بإصلاح المعاد الأهم لأن عليه يصلح أمر الدنيا، من استقل بآخرته كفاه الله أمر دنياه، وبدأ منها بحرف الزجر والنهي وهو المبدوء به في الحديث ورده النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الزجر بلفظ النهي لأن المقصود بهما واحد وهو الردع عما يضر في المعاد إلا أن الردع عل وجهين: خطاب لمعرض ويسمى زجرا كما يسمى في حق البهائم، وخطاب لمقبل على التفهم ويسمى نهيا، قكأن الزجر يزيع الطبع والنهي يزيع العقل، انتهى. وقد بان من هذا سر افتتاح البقرة بالمعروف المقطعة.
ولما كان الذي ابتدئت به السور من ذلك شطر حروف المعجم كان كأنه قيل من زعم أن القرآن ليس كلام الله فليأخذ الشطر الآخر ويركب عليه كلاما يعارضه به، نقل ذلك الزركشي في البرهان عن القاضي أبي بكر قال: وقد علم ذلك بعض أرباب الحقائق، وجمعها الزركشي في قوله: نص حكيم قاطع له سر، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه: في كل كتا بسر وسر الله في القرآن أوائل السوروعن علي رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه: أن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
ولما كانت حروف المعجم تسعة وعشرين حرفا بالهمزة وكان أحد شطرها على التحرير متعذرا فقسمت خمسة عشر وأربعة عشر، وأخذ الأقل من باب الأنصاف وفرق في تسع وعشرين سورة على عدد الحروف، وتحدي به على هذا الوجه، وأبدى الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية الدمشقي الحنبلي في كتاب به كالتذكرة سماه بدائع الفوائد سرا غريبا في ابتداء القرآن بقوله: {الم} حاصله أن حروفه الثلاثة جمعت المخارج الثلاثية: الحلق واللسان والشفتان. على ترتيبها وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي، وفي ذلك تنبيه على أن هذا الكتاب الذي ركب من هذه الحروف التي لا تعدو المخارج الثلاثة التي بها يخاطب جميع الأمم جامع لما يصلحكم من أحوال بدء الخلق وإعادته وما بين ذلك، وكل سورة افتتحت بهذه الحروف ذكرت فيها الأحوال الثلاثة.
وقال الحرالي في تفسيره: ألف اسم للقائم الأعلى المحيط ثم لكل مستخلف في القيام كآدم والكعبة، ميم اسم للظاهر الأعلى الذي من أظهرة ملك يوم الدين، واسم للظاهر الكامل المؤتى جوامع الكلم محمد-صلى الله عليه وسلم-. ثم لكل ظاهر دون ذلك كالسماء والفلك والأرض لام اسم لما بين باطن الإلهية التي هي محار العقول التي هي وصل تنزل ما بينهما كاللطيف ونحوه، ثم للوصل الذي كالملائكة وما تتولاه من أمر الملكوت، وهذه الألفاظ عند انعجام معناها تسمى حروفا، والحرف طرف الشيء الذي لا يؤخذ منفردا وطرف القول الذي لا يفهم وحده، وأحق ما تسمى حروفا إذا نظر إلى صورها ووقوعها أجزاء من الكلم ولم تفهم لها دلالة فتضاف إلى مثلها جزء من كلمة مفهومة تسمى عند ذلك حروفا وعند النطق بها هكذا ألف لا ميم فينبغي أن يقال فيها أسماء وإن كانمت غير معلومة الدلالة كحروف ألف باء تاء فإنها كلها أسماء على ما فهمه الخليل وإنها إنما تسمى حروفا عند ما تكون أجزاء كلمة محركة للابتداء أو مسكنة للوقف والانتهاء.
وأما حقيقتها فهي جوامع أصلها في ذمر أول من كلام الله تعالى فنزلت إلى الكلم العربية وترجمت بها ونظم منها هذا القرآن العربي المبين، فهي في الكنب العلوية الملكوتية المترتبة في الجمع والتفصيل آية وكلم وذات كتاب، فلما نزلت إلى غاية مفصل القرآن أبقيت في افتتاحه لتكون علما على نقله للتفصيل من ذلك الكتاب، ولأنها أتم وأوجز في الدلالة على الجمع من المفصل منها ودلالتها جامعة للوجود كله من أبطن قيمه إلى أظهره وأظهر مقامه وما بينهما من الوصلة والواصلة وهي جامعة الدلالة على الكون المرئي للعين بالعين والوحي المسموع، ولأجل ما اقتضته من الجمع لم تنزل في كتاب متقدم لأن كتا بكل وقت مطابق بحال الكون فيه والكون كان بعد لم يكمل فكانت كتبه وصحفه بحسبه، ولما كمل الكون في وقت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان كتابه كاملا جامعا فوجب ظهور هذه الجوامع فيه ليطابق الختم البدئ، لأنهما طرفا كمال وما بينهما تدرج إليه، وقد كان وعد بإنزالهما في بعض تلك الكتب فكان نزولها نجازا لذلك. أنتهى.
وأما منسبة ما بعد ذلك للفاتحة فهو أنه لما أخبلا سبحانه وتعالى أن عباده المخلصين سألوا في الفاتحة هداية الصراط المستقيم الذي همو غير طرلايق الهالكين أرشدهك في أول التي تليها إلى أن الهدى المؤول إنما هو في هذا الكتاب، وبين لهم صفات الفريقين الممنوحين بالهداية حتى على التخلق بها والممنوعين منها زجرا عن قربها. فكاتن ذلك أعظم المناسبات لعقيب الفاتحة بالبقرة، لأنها سيقت لنفي الريب عن هذا الكتاب ولأنه هدى للمتقين، ولوصف المتقين وما يجازون به بما في الآيات الثلاث ولوصف الكافرين الذين لا يؤمنون لما وقع من الختم على جواسهم والحتم لعقابهم ليعلم أن ما اتصف به المتقون هو الصراط المستقيم فيلزم وما اتصف به من عداهم هو طريق الهالكين فيترك، وفي الوصف بالتقوى بعد ذكر المغضوب عليهم والضالين إشارة إلى أن المقام مقام الخوف.
وإن شئت قلت: مقصود هذه السورة وصف الكتاب فقط وما عدا ذلك فتوابع ولوازم ولن يثبت أنه هدى إلا بإثبات أنه حق معنى ونظما، ولما كان المعنى أهم قدم الاستدلال عليه فأخبر من تماديهم على الكفر بما يكون تكذيبهم به تصديقا له، واتبع ذلك بذكر المنافقين إعلاما بأن المنفي الإيمان بالقلب وأنه لا عبرة باللسان إذا تجرد عنه، وساق ذلك على وجه يعلمون به أنه الحق بما هتك من سرائرهم وكشف من ضمائرهم، فلما تم ذلك وكان المقصود منه الدعاء إلى الله انتهزت تلك الفرصة بقوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] لما أسس لها من الترغيب بالترهيب، ثم أقيم الدليل على حقية نظمه بتقصيرهم عن مدى سهمه، فرجع حاصل ذلك إلى إثباته بعجزهم عن معارضته في معناه بإيجاد من أخبر بنفيه وفي نظمه بالإتيان بمثله، فلما ثبت ذلك ثبت أنه من عند الله فثبت تأهله لتعليم الشرائع فجعلها ضمن مجادلة أهل الكتاب بما يعلمون حقيته بلا ارتياب من الدعاء إلى ما أخفوه من الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام. اهـ.